فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول: لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه: ما دام قد جعله الله خلفية في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه؟!
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في افعل ولا تفعل؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحًا؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه افعل ولا تفعل لا يفسد به المجتمع. إذن ف افعل ولا تفعل هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟. لا، فمادام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في افعل، ولا تفعل ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال افعل إلى مجال لا تفعل، وكذلك يحاول أن يزين لك أن تفعل ما هو في مجال لا تفعل فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجًا يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقى المنهج تلقيًّا نظريًّا، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريبًا على المهمة في افعل ولا تفعل. وحذره من العقبات التي تعترض افعل؛ حتى لا تجيء في منطقة لا تفعل، وكذلك من العقبات في منطقة لا تفعل حتى لا تجيء في منطقة افعل، واختار له مكانًا فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبدًا في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه هي الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها، ولكن لا تقرب هذه الشجرة.
كل هذا هو الأمر، ولا تقرب هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه إبليس؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله سبحانه وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فلا فضلات تتعبه، ولا ينفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة... إلخ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإِعداد.
إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم- كما علمنا- مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمرًا متمثلًا في {فَكُلاَ}، ونهيًا متمثلًا في {وَلاَ تَقْرَبَا}، لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} لأن القِربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين: الرمز الأول: ل افعل، والرمز الثاني: ل لا تفعل، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل: {... فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30]
ولم يقل: لا تعبدوا الأوثان، بل قال: {فاجتنبوا}، والشأن في الخمر أيضًا جاء بالاجتناب. لكنّ بعضًا من السطحيين يقولون: لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول: الاجتناب أقوى من المنع ومن التحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. {... وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [الأعراف: 19]
والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} أي لا تدخلا في اطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحدًا، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذابًا أليمًا في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}
لما أسكن آدمَ الجنةَ خَلَق معه سببَ الفتنةِ، وهو ما أكرمه به من الزوجة، وأي نقصٍ يكون في الجنة لو لم يخلق فيها تلك الشجرة التي هي شجرة المحنة لولا ما أخفى من سِرِّ القسمة؟. اهـ.

.تفسير الآية رقم (20):

قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل، وأن الكل بيده سبحانه، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم، وأن من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون، فقال: {فوسوس} أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء {لهما الشيطان} أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله: {ليبدي} أي يظهر {لهما ما روي} أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه {عنهما} والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله: {ينزع عنهما لباسهما} [الأعراف: 27] و{من سوءاتهما} أي المواضع التي يسوءهما انكشافها، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين.
ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهمًا أنه أمر كبير وخداع طويل، عطف عليه قوله: {وقال} أي في وسوسته أيضًا، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما هذا القول: {ما نهاكما} وذكرهما بوصف الإحسان تذكيرًا بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال: {ربكما} أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه {عن} أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن {هذه الشجرة} جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص {إلا أن} أي كراهية أن {تكونا ملكين} أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم {أو تكونا} أي بما يصير لكما من الجبلة {من الخالدين} أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلًا. اهـ.

.الإسرائيليات والموضوعات في قصة آدم عليه السلام:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
فمن تلك الإسرائيليات: ما رواه ابن جرير في تفسيره بسنده عن وهب بن منبه قال: لما أسكن الله آدم وذريته أو زوجته-الشك من أبي جعفر، وهو في أصل كتابه وذريته- ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعبة بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستنزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربعة قوائم، كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت إلى آدم، فقالت له مثل ذلك حتى أكل منها، فبدت لهما سوءاتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب، قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها، لعنة يتحول عمرها شوكا... ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي؛ فإنك لا تحملين حملا إلا حملتيه كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك، أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم، وهم أعداؤك... قال عمرو: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل!! قال: يفعل الله ما يشاء، قال ابن جرير: وروى ابن عباس نحو هذه القصة.
ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة نحو هذا الكلام، وفي السند أسباط عن السدي، وعليهما تدور الروايات، وقد قدمنا حالهما في الرواية.
وكذلك: ذكر السيوطي في الدر المنثور ما رواه ابن جرير وغيره في هذا، مما روي عن ابن عباس، وابن مسعود، ولكنه لم يذكر الرواية عن وهب من منبه، وأغلب كتب التفسير بالرأي ذكرت هذا أيضا، وكل هذا من قصص بني إسرائيل الذي تزيدوا فيه، وخلطوا حقا بباطل، ثم حمله عنهم ابن عباس، وغيره من الصحابة والتابعين، وفسروا به القرآن الكريم.
ويرحم الله ابن جرير، فقد أشار بذكره الرواية عن وهب: إلى أن ما يرويه عن ابن عباس، وابن مسعود إنما مرجعه إلى وهب وغيره من مُسلِمة أهل الكتاب، ويا لتيه لم ينقل شيئا من هذا، ويا ليت من جاء بعده من المفسرين صانوا تفاسيرهم عن مثل هذا.
وفي رواية ابن جرير الأولى ما يدل على أن الذين رووا عن وهب وغيره كانوا يشكون فيما يروونه لهم، فقد جاء في آخرها: قال عمرو، قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟!! قال: يفعل الله ما يشاء فهم قد استشكلوا عليه: كيف أن الملائكة تأكل؟! وهو لم يأتِ بجواب يُعتدُّ به.
ووسوسة إبليس لآدم عليه السلام لا تتوقف على دخوله في بطن الحية؛ إذ الوسوسة لا تحتاج إلى قرب ولا مشافهة، وقد يوسوس إليه وهو على بعد أميال منه، والحية خلقها الله يوم خلقها على هذا، ولم تكن لها قوائم كالبختي، ولا شيء من هذا.